بسم الله الرحمن الرحيم
إنه الصحابي الفاضل، المجاهد الطالب للشهادة: أبومطيع هشام بن العاص بن وائل بن هشام القرشي السهمي، يروى أن كنيته كانت: أبا العاص، فكنّاه الرسول صلى الله عليه وسلم - : أبا مطيع. أسلم بمكة، واحتمل ما احتمله المسلمون من عنت الشرك وبغي الكفر، حتى اضطر إلى أن يهاجر إلى أرض الحبشة مع الفوج الثاني من المهاجرين الغرباء.
وحينما أقبلت هجرة الرسول – صلوات الله وسلامه عليه – إلىالمدينة سارع هشام بالعودة إلى مكة ليكون من وراء المهاجر العظيم، واتفق مع عمر بن الخطاب وعياش بن أبي ربيعة على التلاقي عند مكان حدّوده ليهاجروا، ولكن عمر استطاع أن يهاجر، أما رفيقاه فقد قبض عليهما جمع من المشركين. وظل هشام سنوات في سجنه، يتحمل ما يلقاه من صنوف الإيذاء والتعذيب، وكان الرسول – عليه السلام – يدعو لهشام السجين، كما كان يدعو لأمثاله في قنوت الصلاة، فيقول والمسلمون من ورائه يؤمّنون على دعائه: " اللهم أنج الوليد بن الوليد، وسلمة بن هشام، وعياش بن أبي ربيعة والمستضعفين من المؤمنين، اللهم اشدد وطأتك على مضر، واجعلها عليهم سنين كسنيّ يوسف".
واستجاب الله دعاء رسوله، فنجا هؤلاء المعذبون في الأرض.
وتروي السيرة أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال ذات يوم لأصحابه: " من لي بعياش بن أبي ربيعة، وهشام بن العاص؟" فقال الوليد بن الوليد بن المغيرة الذي كان قد نجا من قبل: أنا لك يا رسول الله بهما، وذهب إلى مكة مستخفياً، واستطاع بلباقة وخفة أن يعرف مكان السجينين، وتسلّق عليهما الجدار: وقطع قيودهما، وحملهما على بعير سراًّ، وقدم بهما على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وكان ذلك بعد غزوة الخندق.
وواصل هشام بن العاص نضاله مع ركب النبوة وموكب الرسالة، وشهد الكثير من المشاهد والمعارك، وأرسله النبي قائد السرية في شهر رمضان قبل فتح مكة، فصاحبه التوفيق.
ومن العجيب في أمر هشام أنه كان أخاً من جهة الأب لعمرو بن العاص البطل الإسلامي المشهور، وكان هشام أصغر سناًّ من عمرو، ومع ذلك أسلم الصغير قبل الكبير، فبادر هشام إلى الاستضاءة بنور الله عزوجل الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة.
لحق الرسول الأكرم – صلى الله عليه وسلم – بربه جل جلاله، وظل هشام على مسيرته في النضال والكفاح، ووثق أبو بكر رضي الله عنه بعقل هشام وحسن تدبيره، فأرسله إلى ملك الروم ليفاوضه في بعض الأمور، فكان سفيراً موفقاً للخليفة الأول، ثم أقبلت معركة أجنادين التي وقعت في السنة الثالثة عشرة للهجرة، وأجنادين موضع في أرض فلسطين، وخرج هشام بن العاص ضمن المجاهدين فيها مع أخيه عمرو، ودارت رحى الحرب بين كتيبة الإيمان، وجموع الشر والطغيان.
وأبلى هشام يومئذ بلاءً حسناً، وحينما رأى ضعفاً عارضاً لبعض المقاتلين، سيطرت عليه الحماسة، فاندفع نحو صفوف العدو وهو يهتف برفقائه في الإيمان والسلاح قائلاً: " يا معشر المسلمين، أنا هشام بن العاص، أمِنَ الجنة تفرّون؟"
وما زال يقاتل ويصاول وينازل حتى سقط شهيداً في أرض المعركة، وشاء القدر أن تقع جثة الشهيد في مضيق لا يعبره إلاّ إنسان بعد إنسان، واضطر فرسان الإسلام بسبب غليان المعركة أن يطأوا جسمه بخيولهم.
وكأن هذا اشتد على بعضهم، فقال أخوه عمرو وكان من المجاهدين الثابتين في المعركة: " أيها الناس، إن الله قد استشهده، ورفع من روحه".
وانتظر عمرو حتى انتصر المسلمون، وعزّت يومئذ كلمة الإسلام، ثم ذهب إلى ساحة المعركة، ليبحث عن أشلاء أخيه: عن أعضاء المجاهد الشهيد المبعثر الأجزاء، وأخذ يجمعها ويلمّها، ثم حملها وواراها التراب على حالتها؛ ليجمعها الله بقدرته، ويبعثها بسلطانه، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلاّ من أتى الله بقلب سليم.
بأمثال هذه الأشلاء التي تمزقت وتبعثرت من أجسام المناضلين الشهداء، قام بناء الإسلام الضخم الذي عزّ وساد وقاد، يوم كان له من يضحي في سبيله بكل عزيز ونفيس، وحاضر الأمة من ماضيها، فهل من سبيل إلى دعوة لهذا الماضي الجليل؟..
( د. مصطفى محمد الفار )